عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا". قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: "لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ". قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا"
حُكْمِ اللُّقَطَةِ
كان أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتقون الشبهات كلها: صغيرها وكبيرها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً؛ وذلك استبراء لأعراضهم وصيانة لدينهم وحرماتهم عند الله.
فإذا شكل عليهم أمر ترددوا فيه بين الحل والحرمة واستفتوا فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيفتيهم كما علمه ربه عز وجل.
ومن ذلك سؤال الرجل عن حكم اللقطة.
واللقطة: هي كل مال محترم معرض للضياع لا يعرف مالكه، سواء كان هذا المال نقوداً أم ثياباً أم طعاماً كثيراً يسأل عنه صاحبه إذا فقده، وسواء وجد في الطريق أم في المسجد أم في دار غير مسكونة أم في سيارة أم في قطار.
ولا يقال للحيوان الضائع لقطة في الغالب، وإنما يقال له ضالة.
ولا يقال للطفل لقطة، وإنم يسمى لقيط.
وهذا الرجل لم يسأله عن معنى اللقطة ولكنه يسأله عن حكمها، هل يلتقطها إذا وجدها في مكان ما، وماذا يعمل بها إذا التقطها، هل يحرزها لنفسه، أم يتصدق بها على ذمة صاحبها، أم يجعلها عنده وديعة حتى يجد صاحبها، أم ينتفع بها فإذا ما جاء ردها إليه؟ إلى آخر ما يدور في رأس الرجل من تقدير.
فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً". أي تعرف على أوصافها حتى إذا جاء صاحبها ووصفها لك، عرفت صدقه من كذبه، فإن كان صادقاً رددتها إليه، وإن كان كاذباً حجبته عنها.
والعفاص – بكسر العين – : هو الوعاء الذي تكون فيه اللقطة وغيرها من الأموال من جلد ونحوه.
والوكاء: هو الخيط الذي يُشد به الوعاء.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً" أي اسأل عن صاحبها، وقل: عندي لقطة، من وصف عقاصها ووكاءها، أعطيتها له.
والتعريف بها يكون في المكان الذي وجدت فيه، أو في المكان الذي يجتمع الناس فيه كالأسواق ونحوها، وعن طريق أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة وغيرها.
ونفقة التعريف تكون على صاحبها إذا لم يكن فيها إسراف من قبل المعرف، وكذلك نفقة حفظها ورعايتها.
قال عليه الصلاة والسلام: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا" أي إن جاء صاحبها وعرفها أخذها، وإن لم تعرف لها صاحباً بعد السنة مخير فيها؛ فإن شئت أحرزتها لنفسك وانتفعت بها، وإن شئت تصدقت بها على ذمة صاحبها، وإن شئت أيقيتها عندك سنة أخرى.
والتقاط اللقطة من الأمور التي تعتريها الأحكام الخمسة، وهي: الوجوب، والاستحباب، والحرمة، والكراهة، والإباحة.
فيجب التقاطها إن خاف عليها الضياع، ولا سيما إذا كانت مالاً محترماً ما لم يخش على نفسه من الطمع فيها، وإلا كره له التقاطها.
ويحرم التقاطها إن تأكد من طمعه فيها.
ويستحب التقاطها إن كان يبتغي ردها إلى صاحبها، فهو من باب التعاون الذي أمر الله به.
ويباح ترك اللقطة إن غلب على الظن أن يلقاها صاحبها بنفسه إذا سأل عنها أو ذكر مكانها أو غلب على ظنه أن يأخذها غيره فيردها على صاحبها.
ومن المؤسف أن بعض القوانين لم تترك ذوي المروءات يجرؤون على أخذ اللقطة من مكانها وتعريفها أو تسليمها إلى أحد أقسام الشرطة؛ لما يتعرض له الملتقط من المتاعب والاتهامات وغير ذلك من المصائب وسوء العواقب، الأمر الذي يجعل الناس ينصرفون عن اللقطة واللقيط ولو أدى ذلك إلى ضياع المال وموت الأطفال، الأمر كله لله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
واللقطة التي ينبغي على الملتقط ردها هي التي يسأل عنها صاحبها عادة، ويحزن على فواتها غالباً.
وإذا كان الشيء هيناً يسيراً، جاز الانتفاع به دون أن يسأل عن صاحبه.
وتقدير المال الذي يسأل عنه صاحبه ولا يترك البحث عنه حتى ييأس من وجوده – موكول للعرف والحالة الاقتصادية، فيختلف البلد الغني عن البلد الفقير، فدينار يعتبر كثيراً في بلد ويعد قليلاً في بلد آخر.
وسأل الرجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ضالة الغنم، فأفتاه بحل أخذها والانتفاع بها بأسلوب مقنع فقال: "لَكَ – وفي رواية أخرى لمسلم: فإنها لك - أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ" أي إن ظفرت بصاحبها فهي له، وإن تركتها تركتها للذئب، فالأولى أن تأكلها إن لم تجد لها صاحباً.
لكن لو جاء صاحبها بعد أن أكلها فهل عليه غرم أو لا؟
أقول: نعم عليه غرم؛ لأن صاحبها أولى بها حينئذ.
قال الرجل: فضالة الأبل. أي ماذا أفعل فيها.
قال: "مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا" أي اتركها وشأنها؛ فإنها ترد الماء بنفسها وتعرف الطريق إليها بالإلهام وتشرب في اليوم مرة واحدة فتملأ كرشها وتصبر على الظمأ.
ومعها حذاؤها: أي أخفافها تتقوى بها على السير مسافات طويلة، فالخف لها بمنزلة الحذاء للرجل والمرأة، يقيها من صلابة الصخور التي تعترض طريقها في الصحاري الواسعة.
فمتى وجدها صاحبها أخذها، وصاحبها أعرف بمكانها، فإذا التقطها شخص وساقها إلى بيته فقد فوتها على صاحبها بتحويلها عن مكانها الذي يتوقع صاحبها أنها فيه.
ولذلك يكره لصاحب ضالة الإبل أن يسأل عنها في المسجد؛ لأنه لم يجعل لهذا؛ لأن الذين يصلون فيه يحرم عليهم التقاطها فكان عليه أن يسأل عنها في الأماكن التي ترعى فيها. فإن سأل عنها في المسجد قيل له: لا ردها الله عليك – كما سبق بيانه في حديث نشد الضالة – وهذا الدعاء عليه زجر له ولا يقصد معناه؛ لأن المسلم لا يدعو على أخيه المسلم، بل يدعو له ويعينه في مصيبته.
فهو كقولك لمن تعحب به أو بصنيعه: قاتلك الله، أو: ثكلتك أمك أو: ويلك، ونحو ذلك من كلمات الإعجاب والزجر.
وسألني رجل عن لقطة الحرم فقلت له: إن وجدت مالاً في الحرم أو في مكة وخشيت عليه من الضياع فخذه وسل عن صاحبه، أو سلمه للجهات المسئولة.
فإن لم تخف عليه من الضياه فضعه مكانه حتى إذا جاء صاحبه أخذه.
واستفت في ذلك قلبك.
فإن قلت: أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهى عن لقطة الحج كما رواه مسلم في صحيحه عن عبدالرحمن بن عثمان التيمي.
قلت: نعم، نهى عن ذلك لمن التقطها للتملك.
أما من التقطها للحفظ فلا مانع منه، فقد أوضح النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك في حديث آخر فقال: "ولا يحل لقطتها (يعني مكة) إلا لمنشد" أي لمن أراد أن يسأل عن صاحبها.
هذا ما ذكره النووي في شرح مسلم.
تكلمت في هذه الوصية عن أحكام اللقطة بإيجاز، وأرى – تتمة للفائدة – أن أذكر حكم اللقيط، وهو الطفل الذي يضل الطريق فيجده من لا يعرف داره ولا نسبه، فأقول: يجب على كل مسلم وجد طفلاً ضالاً أن يلتقطه صيانة له من الضياع والهلكة، ويسلمه لأقرب مركز من مراكز الشرطة، أو يسأل عنه أهل المكان الذي التقطه منه، ويبلغ عنه أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ويحسن إليه ويعطف عليه حتى يجد له أهلاً.
فإن لم يجد له أهلاً وأراد أن يربيه في بيته فلا مانع من ذلك مع مواصلة البحث عن أهله دون يأس، ولكن لا يتبناه، أي لا ينسبه إليه، فإن التبني حرام بنص قوله تعالى:
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
(سورة الأحزاب: 4-5).
فإن كفله الملتقط وجب عليه أن يخبره إذا كبر بأسلوب حكيم أنه قد رباه وأحبه كحبه لولده؛ ليفهم بطريق مباشر أنه ليس ولداً له على الحقيقة، فيقول له مثلاً: أن أباك كا رجلاً من أهل الخير فيما أحسب والله حسيبه، وأنه خرج من البلد ولم يعرف له مكان، فإن كان قد مات فنسأل الله أن يغفر له ويرحمه ويفسح له في جناته، وإن كان على قيد الحياة فربما تراه يوماً ما.
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
ويقول
له في أمه مثل ما قال في أبيه وأكثر، ويقول له: أنت قد كبرت وصرت رجلاً
والحمد لله فادع لأبويك بخير، وقل كما أمر الله عز وجل:
{ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }
(سورة الإسراء: 24).
ولا تكذب عليهما ولا تبالغ في إطرائهما فالمبالغة نوع من الكذب، ولكن قل قولاً من السهل أن يفهمه وأن يصدقه ويرضى به؛ وإن لنا في المعاريض لمندوحة. كما قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وبعد.. فهذا ما وسعني إملاؤه في شرح هذه الوصية، وهي من الوصايا التي نتعلم منها كيف يكون المسلم أميناً عند الله وعند نفسه وعند الناس.
نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق.
المقالات ذات الصلة
مقالات وموضوعات متنوعة
الرَّجُلُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ
وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ: عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: "لَا يَنْفَتِلْ، أَوْ لَا يَنْصَرِفْ، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا". هذا الحديث أصل من أصول الإسلام اس...
أَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ
الاسم دليل على صاحبه؛ فهو يسمو به ويحدده فيعرف به إذا ما ذكر. والاسم الحسن يحمل لصاحبه ولمن يسمع ذكره فألا حسناً، ويبعث في نفسه نشوة يستعذبها ويسر بها. والاسم القبيح على الضد من ذلك، وله على النفس آثار سيئة، فربما يتعقد الطفل منه حين ينادي به فيتوارى من الناس خجلاً، أو يعتزلهم فيصاب بعقدة الانطواء، وتلازمه هذه العقدة طول حياته.
مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ". التعاون على البر والتقوى أصل من أصول الدين، تجتمع فيه المكارم كلها، وتلتقي عنده جميع أصول ال...
إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ
لقد كان أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب قلوب كبيرة سلمت من كل ما يعكر صفو الإيمان، ويكدر جلوة اليقين، فتآخوا على الحب – اجتمعوا عليه وتفرقوا عليه، وعاشوا به متعانقين يؤثر بعضهم بعضاً على نفسه بما لديه ولو كان في أشد الحاجة إليه.ولقد تحقق الإخاء بينهم بكلمة الله عز وجل فانصهر المهاجرون بعضهم في بعض، وانصهر الأوس والخزر...
بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا - طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا
كان النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُذكر أصحابه بأيام الله، وسننه في خلقه، ويحدثهم عن علامات الساعة الصغرى والكبرى، والمباشرة وغير المباشرة، ويحذرهم من الفتن: صغيرها وكبيرها، وظاهرها وباطنها، فجمعوا من ذلك قسطاً كبيراً من العلم بأشراطها، ونالوا حظاً وافراً من العظات والعبر، فعاشوا بين الخوف والرجاء، ففازوا بخيري الدنيا والآخرة؛ لأ...
إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ
ومن أعظم هذه الصلات الأُخوة الإيمانية، فهي العروة الوثقى بين عباد الله الصالحين، بين أمة لا إله إلا الله أجمعين من لدن آدم عليه السلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فالأخوة الإيمانية مدلولها واسع يشمل الإنسانية المؤمنة كلها.