عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ".
لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ
عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الأسس التي يبنى عليها الدين ارتضاه الله لعباده منذ خلقهم، وهو أصل أصيل فيه، بدونه لا يكون هناك للناس دين.
وبيان ذلك أن الدين يقوم على أربعة أسس رئيسة، هي: العقيدة الصحيحة المبنية على التوحيد الخالص، والعمل الصالح بوصفه برهاناً على صحتها وسلامتها، والخلق الفاضل وهو ينبوع العمل الصالح ومصبه، والسلوك النبيل وهو ترجمة للخلق الفاضل وتعبير عنه.
والمعروف كلمة واسعة الدلالة، تشمل بعمومها هذه الأسس الأربعة وما يندرج تحتها من أصول وفروع.
فكل ما أمر به الله عز وجل يسمى فعله معروفاً وتركه منكراً.
وكل ما نهى الله عنه يسمى تركه وفعله منكراً.
وعلى ذلك يكون معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – دعوة الناس إلى امتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه، بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار البناء والحجج المقنعة.
وهذا هو ما يشير إليه قوله تعالى في سورة يوسف
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
(آية: 108).
فسبيل الله: أوامره ونواهيه، والدعوة إليه: هي بعينها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبصيرة: هي الحجة المقنعة البالغة، التي تقوم على تشخيص الداء ووصف الدواء، والتسبيح: هو التوحيد الخالص، الذي ينبغي أن تقوم عليه الدعوة إلى سبيل الله عز وجل.
وقد بين الله معنى البصيرة في قوله جل وعلا في سورة النحل:
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
(آية: 125).
والحكمة: هي وضع الشيء في موضعه، بحيث يكون الداعية إلى الله على وعي تام بوسائل النجاح في دعوته، بأن يتخير الوقت المناسب للدعوة والمكان المناسب والكلام المناسب، إلى آخر ما هنالك من الظروف والأحوال والملابسات.
الموعظة الحسنة: هي القول البليغ، الذي يسد مسده ويصيب موضعه، ويحرك في النفوس دواعي الخشوع والامتثال والطاعة، ويهز القلوب من أعماقها فيذيب ما بها من شدة وقساوة.
والجدال بالتي هي أحسن: هو الذي يوصل إلى معرفة الحق من أيسر طريق مأمون العواقب، يخلو من الخصومة، والكبر، والعجب، والرياء، والغرور، وجرح المشاعر والخدش في الأعراض، وغير ذلك مما يتنافى مع الحلم والمروءة.
وقد جمع الله لهذه الأمة المحمدية جميع الفضائل، وأكمل لها الدين وأتم عليها النعمة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس؛ لأنها تأمر بالمعروف وتأتيه، وتنهى عن المنكر ولا تأتيه، وتجدد إيمانها بالله دائماً بالتوبة النصوح والعمل الصالح.
قال تعالى:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }
(سورة آل عمران: 110).
وهذه الآية دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة محكمة على كل مؤمن قادر على ذلك، مع تفصيل واسع ذكرنا طرفاً منه الوصية الثالثة والعشرين – وهي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا، فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ"
فراجع ما ذكرناه هناك.
أما هذه الوصية، فإنها محذرة ومُنذرة، تضع كل مسلم على الطريق الذي ينبغي أن يسلكه للفرار بدينه، والنجاة بنفسه من عذاب الله في الدنيا والآخرة.
فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ": قسم مؤكد لما بعده من الوعيد والتهديد لكل من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كثيراً ما يقسم به في الأمور ذات الشأ، والخطر.
ومعناه: أقسم بالذي نفسي مِلك له، ماض فيها حكمه عدل فيها قضاؤه.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ"
صيغة من صيغ الحض والتحريض، وهي أبلغ من قوله: أفعلوا كذا وكذا.
واللام: حرف توكيد مع القسم، والنون: مؤكدة أيضاً، والإتيان بها في هذه الصيغة واجب تحتمه اللغة.
وهذه الصيغة يترتب عليها – ولابد – جواب لسؤال مقدر فحواه: ماذا يترتب على امتثال هذا الأمر وعلى تركه؟.
ولما كان الجواب عن الامتثال معروفاً من قبل الشرع، لم يذكره الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن ذكر ما يترتب على عدمه فقال:
"أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ".
أي: إن لم تفعلوا، فانتظروا قرب العقاب الذي ينزل بكم، فلا تستطيعون دفعه بالدعاء؛ لعدم قبوله منكم.
أو بعبارة أخرى: والله إن أحد الأمرين واقع لا محالة: إما إن تمتثلوا بما جاءكم عن ربكم فتأمرون بالمعروف وتأتونه، وتنهون عن المنكر وتحذرونه، أو ينزل عليكم غضب من ربكم مصحوباً شديد، لا تستطيعون دفعه بأنفسكم ولا بدعائكم، فهما أمران لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإن أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، فتحت لكم أبواب الرحمة، وإن لم تفعلوا، فتحت عليكم أبواب العذاب.
والخطاب في الحديث لكل مكلف لديه القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا استثناء. والطاعة على قدر الطاقة.
فلا يقولن قائل: هذا الأمر خاص بالأمراء والعلماء دون الأميين؛ فإن الأمر عام ليس له ما يخصه.
فالأمي يعرف بالفطرة ما يحل وما يحرم، وما يجب وما لا يجب، ويعرف بالضرورة أن هذا الفعل طيب وذاك الفعل خبيث، ويعرف ما يوافق العرف وما يخالفه، يعرف أن هذا الشيء عيب لا ينبغي أن يؤتي، وهذا الشيء ينبغي عرفاً أن يؤتي، فيأمر بالمعروف متى عرفه، وينهى عن المنكر متى أبصره.
فإن لم يستطع أن يأمر وينهى عن المنكر متى أبصره.
فإن لم يستطع أن يأمر وينهى، فلينكر المنكر بقلبه، ويقول في نفسه: اللهم إن هذا منكر لا ترضاه فاغفر لي ولفاعله.
وكثير من العوام يستطيعون أن يقوموا بهذا الواجب أكثر من غيرهم أحياناً، ولا سيما الذين لهم عند الناس قدر ومكانة؛ لصلاحهم وتقواهم وحسن أخلاقهم وتعاونهم على البر والتقوى، وما تحلوا به من الحكمة وحلاوة اللسان، وغير ذلك من الأوصاف التي يحبها الناس ويحبون ما تحلى بها.
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح:
"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ، وَهُو مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فٍي بَيته رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا رَاعِيَةٌ، وَهِي مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، أَلَّا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
وهذا الحديث بيان مفصل لقوله تعالى:
{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى }
(سورة طه: 132).
وقوله جل وعلا:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
(سورة التحريم: 6).
وعلى الأمرء أن يوظفوا طائفة من العلماء العاملين؛ للقيام بهذ الواجب في كل مدينة وفي كل قرية وفي كل حي، يأمرون بالمعروف باللسان وبالقدوة لا باللسان فقط؛ فإن الأمر باللسان وحده دون عمل يقويه، يأتي بنتيجة عكسية فيكون ضرره أكثر من نفعه.
يـــا أيهــــا الرجـــل المعلــــم غيـــره هــلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصبـح به وأنت سقيم
وتـــراك تصلح بـــالرشــاد عقــــولنـا أبداً وأنت من الرشاد عديم
أبـــدأ بنفســـك فانــهها عـــــن غـــيها فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فعســـاك نقبـــل مـــا تقــول ونهتـــدي بالوعـظ منـك وينفغ التعليم
لا تنــــه عـــن خلـــق وتأتـــي مـــثله عـار عليك إذا فعلت عظيم
فإن لم يوظف الحاكم جماعة يقومون بهذا العمل الجليل، فليؤد كل عالم واجبه من جهته محتسباً أجره على الله عز وجل؛ والله تبارك وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
فإن لم يكن في البلد علماء، انتخب الناس من بينهم من يؤدي هذا الواجب على النحو الذي يحبه الله ويرضاه بقدر الطاقة.
وقد رأيت في بعض القرى جماعة من الأخيار – ومعظم عوام – يمشون بين الناس مصلحين ومرشدين، فلا يتركون خصاماً يستفحل خطره بين زوجين أو بين رجلين أو أسرتين إلا أزالوه، ولا يدعون ظالماً يتمادى في ظلمه إلا منعوه من التمادي فيه وأخذوا الحق للمظلوم منه، ولا يسمحون لشخص كائناً من كان أن يعتدي على حرمة من الحرمات أو يخالف العرف المتبع مخالفة تضر بالناس.
وعرفت منهم رجالاً ينطقون بالحكمة ويعالجون المشكلات بالطرق المثلى في يسر وسماحة وتواضع يغبطهم عليها العلماء.
ولقد كنا – نحن الذين تخرجنا في الأزهر – ندعي إلى صلح بين قبيلتين في أقصى الصعيد فنقول ما نقول، فلا نجد لقولنا آذاناً صاغية، فيأتي رجل أمي يبدو على وجهه الصلاح فيفرح الناس بقدومه ويقدمون له الصلح فيما بينهم هدية له ويجعلونه تعبيراً صادقاً عن فرحتهم به دون أن ينطق بكلمة، ونحن جلوس لا ندري كيف حدث هذا في لحظة واحدة. أسحر هذا أم نحن لا نبصر!! وأين نحن منه وأين علمنا!! وتسرح خواطرنا في هذا الموقف الذي أمدنا بأكبر موعظة وأرانا عيوبنا بصورة مشرقة وأسلوب بسيط.
عرفنا يومها أن القدرة في الصلح بين الناس وهدايتهم إلى الصراط المستقيم ليس بالعلم وحده ولكنه بالتقوى والعمل الصالح، وعرفنا أن التقوى والعمل الصالح خير من العلم المجرد عنهما.
وعـالم بعلمه لا يعمل أقــواله مـردودة لا تقبــل
حقا أقواله مردودة لا تقبل.
وعالم بعلمه لا يعملن معذب من قبل عباد الوثن
لماذا هو معذب من قبل عباد الوثن، يجيبك على هذا قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }
(سورة الصف: 2-3).
وقد ضرب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا مثلاً من علماء بني إسرائيل والمتظاهرين بالصلاح منهم فقال:
"إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ". ثم قال: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } . ثم قال: "كَلَّا، وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا - أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ".
(سورة المائدة: 78-81)
ومعنى قوله:
"وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا"
لتحملنه على الحق والرضوخ إليه حملاً لا هوادة فيه، والجملة التي بعدها تفسير لها.
ومعنى قوله: "أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ" ليسلطن بعضكم على بعض فتختصمون وتتباغضون وتتناحرون وتختلف قلوبكم فلا تجتمعون على كلمة واحدة. ومن هنا يأتي الدمار وخراب الديار.
{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }
(سورة هود: 102).
وفي رواية للبزار والطبراني في الأوسط بسند لا بأس به،
عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسلِّطن الله عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ".
ولعل هذا تفسير لقوله تعالى:
{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
(سورة الأنعام: 129).
وإذا تولى الظالم أمر ظالم مثله لا يرقب فيه إلا ولا ذمة، فيتبادلان الظلم حتى يفتك أحدهما بالآخر.
والأخيار إذا عايشوا الأشرار وهادنوهم ولم يأخذوا على أيديهم ويقولوا كلمة الحق لهم في صراحة ووضوح، كانوا مثلهم، فحل بهم جميعاً عذاب الله.
فعلى كل من عجز عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن ينكر ذلك بقلبه – كما أشرنا – أو يهاجر إلى أرض أخرى يجد فيها قوماً صالحين.
يقول الله عز وجل:
{ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
(سورة الأنفال: 25).
أي: اجتنبوا ما يوجب العذاب وابتعدوا عن ساحته واستعينوا على ذلك بالله عز وجل، وعيشوا بعيداً عنهم؛ حتى لا يصيبكم ما يصيبهم، فلا تجدون لأنفسكم ملجأ تلجأون إليه.
إن الله عز وجل قطع عذر من يعايش قوماً ظلموا أنفسهم بالكفر أو بالمعاصي التي دونه يوم القيامة، فقال:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }
(سورة النساء: 97).
واستثنى منهم من عجز عن الهجرة فقال:
{ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا }
(سورة النساء: 98-99).
ووعد المهاجرين في سبيله وعداً حسناً في الدنيا والآخرة، فقال:
{ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
(سورة النساء: 100).
إن الفلاح كل الفلاح لمن آمن بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وآمن بالقدر خيره وشره وأسلم وجهه لله مخلصاً له الدين، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا إلى الخير، وسارع إليه، وكان لغيره قدوة فيه.
يقول الله عز وجل:
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
(سورة آل عمران: 104-105).
ويقول جل شأنه:
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }
(سورة فصلت: 33-34).
وقد يقول قائل: ماذا يفعل المسلم في هذا الزمان الذي انتشرت فيه الفتن وقام المروجون لها على قدم وساق، وتظاهروا على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقالوا مثل ما قال قوم لوط:
{ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }
(سورة الأعراف: 82).
ماذا يفعل هؤلاء الدعاة المرشدون وقد ضيق الخناق عليهم، وأدخل الكثير منهم غيابات السجون، ولقبوهم بألقاب تنفر الناس عنهم، هل يلزمون بيوتهم ويكفون عن دعوة الناس إلى الخير وترك المعاصي، ويكفون عن دعوة الناس إلى الخير وترك المعاصي، أم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مهما كلفهم الأمر وليكن ما يكون؟
أقوال: عليك – أيها المسلم – بتقوى الله ما استطعت، وأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر كل من يغلب على ظنك أنه يسمع ويطيع، وابدأ بنفسك ثم بمن تعول ثم الأقرب فالأقرب، واحذر الأشرار ما استطعت، واتخذ لنفسك منهم تقية، ولا تكن منافقاً؛ فإن التقية لا تكون في النفاق، واجتهد في طلب العلم؛ فإن العلم يهديك سواء السبيل، وبذلك على الطرق المثلى في تأدية هذا الواجب، ويحميك من الخوض في متاهات لا تحمد عواقبها.
وألزم صحبة الأخيار، وخذ منهم ما ينفعك، ولا تصحب الأشرار حتى لا يصيبك ما يصيبهم.
{ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ }
(سورة هود: 113).
وأبشر – يا أخي – بخير عظيم إن أخلصت لله في القول والعمل ونصرت دينه بما لديك من سلاح، وقلت كلمة الحق ولم يخش في الله لومة لائم، واعلم أن الله يضاعف الأجر بقدر الإخلاص في العمل، ويجزل الثواب في الدنيا والآخرة بقدر المشقة فيه.
ولقد أوصى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بوصية عظيمة، وينبغي علينا أن نفقه معانيها ومراميها وتضعها في هذا الزمان موضع الاعتبار.
فقد روى الترمذي، وأبو داود، عن أبي أمامة الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ }؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَلْ "ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَم شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِن مِثْلُ القَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِن مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكم".
وَفِي رواية أبي داود:
"قيلَ :يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنَّا، أو منهم؟ قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنْكُمْ".
نسأل الله أن يجعلنا من خيارهم.
المقالات ذات الصلة
مقالات وموضوعات متنوعة
لَا يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَحْقِرُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ؟ قَالَ يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لَا يَقُولُ فِيهِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا م...
امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ: "امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ، وَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ". وفي رواية قال: "أَتُحِبُّ أَن يَلِينَ قَلْبُكَ، وَتُدرِكَ حَاجَتَكَ؟ اِرحَمِ اليَتيمَ، وَامْسَح رَأَسَهُ، وَأطعِمَهُ من طعامك – يَلِنْ قَلْبَكَ،...
اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِن
الفراسة – بكسر الفاء – هي: المهارة في تعرف بمواطن الأمور من ظواهرها، واستخلاص الرأي السديد من الآراء المتعددة. وهي النظر الثاقب فيما يُرى ويُسمع، والبصر النافذ فيما يضر وينفع. والتفرس في الأمور قد يكون مبنياً على الذكاء المفرط، والحنكة في التجربة، والخبرة بعادات الناس وظروف الحياة.
بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا - الموت
وأما الخامسة التي أوصانا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمبادرتها بالأعمال فهي "خاصة أحدنا" وهي الموت. والموت كأس كل الناس شاربه، وبا كل الناس داخله، ونسيانه ضلال مبين، والعفلة عنه وعما بعده دليل على فساد العقل وقسوة القلب. والكيس من الناس أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً. ولا شك أن الإكثار من ذك المو...
إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا، ثُمَّ قَالَ أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ،...
لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ
للحسد في لغة العرب معنيان – أحدهما على الحقيقة والآخر على المجاز. فالحسد على الحقيقة: هو تمني زوال نعمة الغير. ومعناه على المجاز: الغبطة، وهي تمني مثل ما للغير والحرص على تحصيله، وهو المقصود في هذه الوصية.