غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ

غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ

غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

"غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الْبَابَ، وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ سِقَاءً، وَلَا يَفْتَحُ بَابًا، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا أَنْ يَعْرُضَ عَلَى إِنَائِهِ عُودًا، وَيَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ؛ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ".

هذه الوصية تُرينا بوضوح أن أخذ الحذر واجب، والاحتياط مطلوب في كل أمر يخشى منه الضرر، فأخذ الحذر يقي المرء مما يخافه ويخشاه إن شاء الله تبارك وتعالى، فهو سبب من الأسباب التي ينبغي على المرء أن يأخذ بها وليس عليه بعد ذلك أن ينتظر وقوع المسبب إلا على سبيل الرجاء في فضل الله والطمع في رحمته.

فعلى العبد أن يسعى وليس عليه تحصيل المطالب، فمن قصر في تحصيل الأسباب كان متواكلاً لا متوكلاً، والتواكل مذموم والتوكل محمود، والفرق بينهما ظاهر.

فالمتوكل هو الذي يعتمد على الله ويثق بفضله مع الأخذ بالأسباب.

والمتواكل يدعي أنه يعتمد على الله ويثق بفضله ولا يأخذ بالأسباب، مع أن الأسباب هي الدليل على صحة الدعوى.

وهذا كقولنا: فلان مريض وفلان متمارض.

ومن لم يأخذ بالأسباب فقد هدم الدين وأتى به من القواعد؛ فقد ربط الدين الأسباب بمسبباتها، فإذا وقع السبب وقع المسبب إن أراد الله ذلك، وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

وهذه الوصية يظن بادي الرأي أنها وصية بدوية أو ريفية ينتفع بها سكان الصحاري والقرى المتخلفة؛ والحق أنه هو المتخلف.

ولو نظر إليها بشيء من التأمل، لوجد أن أهل المدن من المتحضرين ينتفعون بها أكثر بكثير من أولئك الذين يسكنون البوادي والقرى.

فتغطية الإناء تحفظ ما فيه من طعام وشراب وغير ذلك من التلوث بما في الجو من العوادم والغازات والروائح الكريهة، وتحمي ما فيه من اقتحام الجراثيم الفتاكة والحشرات الضارة؛ والوقاية خير من العلاج.

وتغطية الإناء تصرف حضاري يستدعيه الذوق السليم والفطرة المستقيمة والمصلحة العامة.

فهل تطيب نفسك – بالله عليك – أن تأكل طعاماً من إناء مكشوف مدة طويلة ولا سيما إذا كان قد بات كذلك؟

وربط السقاء، وهو القرية ونحوها، وإحكام غلقة – تصرف حضاري أيضا؛ فإن الماء يصيبه ما يصيب الطعام، فلابد من حفظه والعناية بتنقيته من كل ما يعتريه من الشوائب، وهو عمل جليل سبق إليه الإسلام فأوصى به على هذا النحو البسيط؛ لنأخذ منه ما ينفعنا في عصرنا هذا.

فربط السقاء يقابله في عصرنا إحكام الزجاجات التي يكون فيها الماء، وإحكام غلق الحنفيات والمحابس؛ حتى لا يتسرب الماء منها على الأرض فيضيع هدراً، ويترتب على سيلانه ما نعرفه من الأخطار.

وينبغي أن تعرف أن الإسلام يدعو إلى القصد في كل شيء ولا سيما في الماء؛ بوصفه روح الحياة.

قال تعالى:

{ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا }

(سورة الأعراف: 31).

ومن الإسراف الإهمال في حفظ الطعام حتي يفسد، والإهمال في ترك صنابير المياه مفتوحة فيذهب الماء بدداً، وتضيع جهود الدولة في إخراجه ورفعه إلى المنازل سدى.

ونحن نعلم مقدار ما تنفقه الدولة على ذلك، ومقدار ما يعانيه الناس من سيلان الماء في الشوارع وانفجار مواسير المياه هنا وهناك بسبب الضغط الشديد عليها من جراء الإسراف في استعماله.

وعن مبالغة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحث على القصد في استعمال الماء أنه مر يوما على سعد بن أبي وقاص فقال له: "ما هذا السرف يا سعد؟".

فقال: هل في الماء من سرف؟

قال: "نعم، وإن كنت على نهر جار".

وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الوصية: "وأغلقوا الباب" أمر من الأمور التي يعرفها الناس بداهة ولا يحتاجون فيها إلى إيصاء، ولكن الإنسان من طبعه النسيان، فقد ينسى إغلاق الباب، أو يكسل عن إغلاقه ويقول في نفسه: الدنيا بخير، والبلد أمان، وربنا يستر، ونحو ذلك من الأقوال التي تتعارض مع الحرص والحذر.

وقد قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

" الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ".

ولا شك أن إغلاق باب الدار أو باب الحجرة يمنع دخول من لا يحب أن يدخل عليه من الأقارب والأجانب، ويمنع أرباب الفسق والفجور من اللصوص وغيرهم أن ينالوا من البيت شيئاً أو يصيبوا أهله بسوء.

وإغلاق الباب يشعر صاحب الدار أو الحجرة بالأمان أكثر وأكثر، فينام في هدوء وراحة بال، وهذا أمر لا يستهان به.

وأما إطفاء السراج فهو من الضروريات التي ينبغي أن نحرص عليها عند إرادة النوم إذا كان السراج مما يضاء بالغاز ونحوه؛ لما يترتب على وجوده موقداً من الأضرار التي سيأتي ذكرها.

أما المصابيح الكهربائية فإنها لا تقاس عليه؛ لعدم خطورتها، وإن كان إطفاؤها أولى عند النوم؛ لأن الظلام يجلب النوم بهدوء، وينسى الإنسان متاعبه المادية والمعنوية، ويريحه من الهم المتواصل بعض الشيء.

ويجيء التعليل لما أوصى به النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة مشاهدة تقع في البوادي والقرى والمدن أيضاً، فيقول عليه الصلاة والسلام: "فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ سِقَاءً، وَلَا يَفْتَحُ بَابًا، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً".

والعرب يطلقون لفظ الشيطان على كل بشع في منظره سيئ في سلوكه يتأتى منه الشر ولا يتأتى منه الخير، وينسبون كل شر إليه، تأدباً مع الله أو تمسكاً بما اعتادو عليه في التعيبر، فافهم ذلك فإنه مهم في التأويل.

فالله عز وجل قد شبه شجرة الزقوم برءوس الشياطين لبشاعة منظرها وخبث مطعمها وريحها، فقال في سورة الصافات:

{ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ }

(آية: 65)

وأخبرنا في قصة موسى عن فتاه يوشع بن نون أنه أسند نسيان الحوت إلى الشيطان فقال في سورة الكهف:

{ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِي إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ }

(آية: 63).

وقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمرأة المستحاضة:

"إِنَّمَا هَذِهِ رَكْضَةٌ مِنْ رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ".

فالشيطان يمثل قوي الشر، فإذا جاء لفظه في حديث فإنه يحمل على محمل يناسب المقام بحسب قرائن الأحوال.

فالمراد إذا بالشيطان الذي لا يحل سقاء، ولا يفتح باباً، ولا يكشف إناء – كل مؤذ من الهوام وغيرها مما ينبغي توقي خطره.

وقد أوصى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من لم يجد لإنائه غطاء أن يعرض عليه عوداً ونحوه كمغرفة أو سكين وليقل عند وضعه: باسم الله؛ فإن الله يحفظ ما فيه بعنايته.

ويستحب أن يوضع العود ونحوه باليد اليمنى؛ لأن فيها البركة.

وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تعليل إطفاء السراج: "فإن الفويسقة – وهي الفأرة – تضرم على أهل البيت بيتهم" أي تسحب السراج إلى الأرض أو إلى الفراش فيحدث ما لم يكن في الحسبان؛ لهذا جاز قتلها في الحرم.

هذا ما انتهى إليه علمنا في التحليل والتعليل، ولكن وراء هذا وذاك الكثير والكثير مما لا نعلمه، فربما يتعلق بهذه الأوامر ما يدفع عنا أضراراً كثيرة لا نعلمها.

والعلم يكشف كل يوم جديداً مما كان خافياً عنا، مما يدل دلالة قاطعة على أن وراء هذه الأوامر ما خفى عنا حاله ومآله. والعلم عند الله وحده، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتلقى الوحي منه فلا ينقص فيه ولا يزيد،

{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }

(سورة النجم: 3-4).

وقد علل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تغطية الإناء وإبكاء السقاء بتعليل آخر فقال: "غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ"؛ فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء، ولا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلم الوباء".

وإذا نظرنا إلى هذه الوصية من زاوية أوسع مدى مما ذكر فيها، تبين لنا أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصي ولا يحصى؛ لعلمه أن العقول النيرة لا تقف عند حد ما ذكر ولكنها تقيس الأشباه على الأشباه والنظائر على النظائر، وتحسب لكل شيء حساباً على ضوء ما ذكر فتقيس مثلاً إطفاء النار الموقدة على السراج المضيء، فيحرص كل مسلم على أن يحصن بيته منها فلا يترك المدفأة مثلاً مفتوحة ثم ينام، فإن ذلك يشكل خطراً عليه وعلى أهل بيته منها، وكذلك المبخرة ونحوها كالبوتجاز وأنابيب الغاز.

وإذا غرم على السفر فصل الكهرباء وأغلق محابس المياه وغير ذلك من الأمور التي يخاف أن تتلف أو تسرق.

وهناك أحاديث أخرى تتعاون مع هذا الحديث في القياس منها ما رواه مسلم – أيضاً – في صحيحه عن: 

أَبِي مُوسَى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ اللَّيْلِ فَلما حدِّثَ بِشَأْنِهِمْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ".

وفقه الأحاديث النبوية أهم من حفظها بكثير؛ فإن بالإمكان الرجوع إليها في مظانها بسهولة بخلاف فقهها؛ فإنه يحتاج منا إلى إعمال فكر وإنعام نظر.

"مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ".

نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في الدين وأن يعلمنا التأويل.

المقالات ذات الصلة

مقالات وموضوعات متنوعة

المقالات

اشترك للإطلاع على جديد الموقع