عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ. فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ".
لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ
للحسد في لغة العرب معنيان – أحدهما على الحقيقة والآخر على المجاز.
فالحسد على الحقيقة: هو تمني زوال نعمة الغير.
ومعناه على المجاز: الغبطة، وهي تمني مثل ما للغير والحرص على تحصيله، وهو المقصود في هذه الوصية.
والحسد بمعناه الحقيقي كبيرة من أعظم الكبائر، وهي أول معصية وقعت في الخليقة، كما سبق بيانه في هذا الكتاب.
أما الحسد بمعنى الغبطة فهو جائز، بل هو من المستحبات في تمني ما هو قربة إلى الله تبارك وتعالى.
والمؤمن يتنافس مع غيره من المؤمنين في فعل الخير حين يغبطه على ذلك؛ فالغبطة تحمل صاحبه على الاقتداء بأصحاب الهمم العليا في مجاهدة النفس وحملها على الطاعة والانقياد وصنائع المعروف.
يقول الله عز وجل في التعقيب على ما عد به الأبرار:
{ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}
(سورة المطففين: 26).
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَا حَسَدَ"
جملة خبرية في اللفظ طلبية في المعنى، أي لا تحسدوا أحداً على نعمة من النعم، وإن كنتم – ولا بد فاعلين، فليكن ذلك غبطة.
أو بعبارة أخرى: إن كنت تتمنى شيئاً مما لدى الغير، فتمن أن تكون أحد الرجلين.
واحرص على تحقيق هذه الأمنية، والتمس من الوسائل ما يحققها لك.
والوسائل التي تتحقق بها هذه الأمنية كثيرة، لا تخفى على من كانت له دراية واسعة بفقه الكتاب والسنة.
فالرجل الذي علمه الله القرآن – ذو حظ عظيم بلا شك. فادع الله عز وجل أن يعلمك مثل ما علمه، واقرن الدعاء بالعمل: فاذهب إلى معلم يعلمك منه بعض السور.
وابدأ معه بقصارها؛ فإنه يسهل عليك في الغالب حفظها، وهي أول ما نزل من القرآن.
وعلم ولدك أيضاً معك؛ لعل الله يفتح عليك بسببه.
وليكن معك عزمك وهمتك، فلا تكسل على تحقيق هذه الرغبة مهما كلفك الأمر.
وربما يفتح الله عليك فتوح العارفين به، فتحفظ القرآن كله.
وسل الله أن يوفقك للمداومة على قراءته ليلاً ونهاراً؛ فإن قراءته بالليل والنهار هي الروح والريحان في الدينا والآخرة.
ولكي تحفظ القرآن بسهولة ويسر، اقرأه مرتلاً على مهل، ولا تسرع في قراءته؛ فإنك لو أسرعت لا تتمكن أبداً من حفظه.
وابذل جهدك في تدبير معانيه ومراميه، حتى تتمكن من العمل به. وعندئذ يغبطك الناس على هذه النعمة.
فإن لم يسعفك الوقت ولم تستجب قريحتك للحفظ، فواظب على سماعه بتدبر؛ فإن القاريء كالحالب والسامع كالشارب، كما يقولون.
وإن أردت أن تكون من المنفقين، فانزع حب المال من قلبك، بكثرة الذكر وتذكر الموت، والتفكر فيمن ذهب من الأغنياء ولم يدخر منه لنفسه شيئاً ينفعه في الآخرة كيف كان حاله في الدنيا، وكيف يكون حاله يوم القيامة.
واقرأ كتب الوعظ والإرشاد؛ فإنها ترقق قلبك على الفقراء والمساكين وغيرهم من ذوي الحاجات، وتدفعك إلى البذل مما في يديك بطواعية وإخلاص لله، الذي منحك المال وجعلك خليفة فيه.
فهذه الوصية تغريك بهذا العمل؛ إذ لا خير في الغبطة من غير جد في الطلب.
وعلى العبد أن يسعى وليس عليه تحصيل المطالب.
ولا شك أن هذه الغبطة المصحوبة بالجد والعمل سوف تمكن صاحبها إن عاجلاً أو آجلاً من تحصيل ما يتمناه كله أو بعضه، فليبدأ كل منا السير على بركة الله في تحقيق مطلبه وبالله توفيقه.
وقد قال الرسول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ".
(ولما كان تطلع
الإنسان إلى غيره قد يكون فتحاً لأبواب الفتنة، وتعلقاً بالمنى الباطلة،
واشتهاءً لما يحسبه الشخص نافعاً له، وهو في الحقيقة ضار به، أرشد الإسلام
إلى ما ينبغي طلبه والتنافس فيه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ"
إلخ. والحسد في الحديث تمني مثيل النعمة، لا تمني زوالها، كما ذكرنا.
والمقصود أن يكون المثل الأعلى الذي يستهدفه الإنسان جليلاً رائعاً؛ فإن من سقوط الهمة أن ترتبط الآمال بالتافه من الأحوال.
وهناك شئون يُعتبر التشبث بطلبها عبثاً لا يورث إلا الحسرة، وقد ينتهي بالحق على الناس، لا لشيء إلا لأن الله خصهم بمواهب فطرية أو بمنافع تقوم على هذه المواهب).
وفي هذه الشئون وأمثالها يقول الله تعالى:
{ وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
(سورة النساء: 32).
فالتمني له حدود ينبغي أن ينتهي إليها.
ويكفي المؤمن أن يشارك أخاه المؤمن في هذه النعمة وغيرها مشاركة وجدانية، ويسأل الله عز وجل أن يحشره معه يوم القيامة إن مات على الإيمان، ويسكنه معه فسيح جناته، وأن تناله بركته في الدنيا، ونحو ذلك مما في وسعه أن يتمناه.
ويستفاد من هذا الحديث فوق ما ذكرناه فائدتان:
الفائدة الأولى: أن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على المؤمن حفظ القرآن والمداومة على تلاوته مع تدبره والعمل به، والإخلاص له في تعليمه للناس وبيان معانيه ومقاصده بقدر الطاقة.
الثانية: الترغيب في بذل المال بسخاء وافر لمن يستحق العون من الفقراء والمساكين وغيرهم من ذوي الحاجات، وتوقي الشح ما أمكن؛ فإن الشح مهلك لأهله.
فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ" يدل على أنه لم يترك للشح عليه سبيلاً، فهو يقول به هكذا وهكذا من غير حساب، ولا ينفق شيئاً منه إلا في الحق.
ولكن هذا مشروط بأن لا يكون له من الأولاد ما هو في حاجة شديدة إليه؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لأَنْ تَذَرَ ذُرِّيَّتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ".
ولا يسمى إنفاق المال كله إسرافاً أو تبذيراً إذا كان في سبل الخير ولم يكن هناك مانع شرعي من ذلك.
ومن طريف ما يحكى أن رجلاً لقى أخاه في الطريق فعاتبه على إنفاق ماله في سبيل الله وقال له: لا خير في السرف، فقال له أخوه: ولا سرف في الخير.
نعم، لا سرف في الخير؛ إذ ليس لابن آدم من ماله إلا ما يبلغه حاجته. يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يَقُولُ الْعَبْدُ مَالِي مَالِي إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ".
ويقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: "فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ".
والخلاصة أن أصول النعم مجموعة في الإيمان، فمن أوتى الإيمان فقد أوتى الخير كله.
إلا أن المؤمن قد يفوق غيره بخصائص كثيرة يرتفع بها عند ربه درجات كالعلم وحفظ القرآن والمداومة على قراءته، والمال الكثير الذي يوفقه الله لإنفاقه في الحق، ونحو ذلك مما لا يحصى عده، فلا ينبغي للمؤمن أن يحسد أخاه على نعمة من هذه النعم ولكن له أن يغبطه عليها؛ وقد عرفنا الفرق بين الحسد والغبطة.
والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
المقالات ذات الصلة
مقالات وموضوعات متنوعة
فُكُّوا الْعَانِيَ
دين يدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، ويحض على إطعام المساكين وتنفيس الكرب عن المكروبين، ومواساة المرضى ومن في حكمهم من البائسين والمحرومين.وهذه الوصية من مئات الوصايا التي تعبر عن سماحة هذا الدين حتى مع أعدائه؛ لأنه دين لا يعادي من يعديه، ولكن يكتفي برد عدوانه عن معتنقيه، ويتشوف إلى الإسلام متى وجد سبيلاً إليه، ويجب كل ذنب اقترفه الكافر إذا أسل...
لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ
الإسلام دين يدعو معتنقيه إلى التمسك بالفضائل، وهي كثيرة لا تنحصر في دائرة معينة ولكنها تشمل مناحي الحياة كلها. وهذه الفضائل على كثرتها تتبع من الإيمان وفيه نصب، فهي شعبه التي يتشعب بعضها من بعض، وتحت كل شعبة من الخصال الكريمة ما لا ينحصر.
يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ
ولابد للشفيع أن يكون لديه مؤهلات الشفاعة، ومن علم وخلق فاضل وزهد في الدنيا، وسبق في الإسلام أو في فعل الخيرات. والإمامة في الصلاة تتطلب من الإمام أن يكون محبوباً عند من يصلي خلفه، ولا يكون الإمام محبوباً إلا بخصاله الحميدة وعلمه بالكتاب والسنة، وخلقه الحسن وحبه لمن يأتم به.
إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ
لقد كان أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب قلوب كبيرة سلمت من كل ما يعكر صفو الإيمان، ويكدر جلوة اليقين، فتآخوا على الحب – اجتمعوا عليه وتفرقوا عليه، وعاشوا به متعانقين يؤثر بعضهم بعضاً على نفسه بما لديه ولو كان في أشد الحاجة إليه.ولقد تحقق الإخاء بينهم بكلمة الله عز وجل فانصهر المهاجرون بعضهم في بعض، وانصهر الأوس والخزر...
عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ
كان أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا سيما المقربون منهم – من أشد الناس حرصاً على حضور الصلاة في المسجد وتأديتها بخشوع وخضوع خلف الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فإذا أقيمت الصلاة هرعوا إليها متسابقين، فنهاهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، لأن الصلاة إنما تقوم على الخشوع، والخضوع يتطلب استعداداً مسبقاً يتمثل في...
بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا - الموت
وأما الخامسة التي أوصانا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمبادرتها بالأعمال فهي "خاصة أحدنا" وهي الموت. والموت كأس كل الناس شاربه، وبا كل الناس داخله، ونسيانه ضلال مبين، والعفلة عنه وعما بعده دليل على فساد العقل وقسوة القلب. والكيس من الناس أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً. ولا شك أن الإكثار من ذك المو...