لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ

لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ

لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ

عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَطْلُبُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ طَلَبَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ".

الإسلام دين يدعو معتنقيه إلى التمسك بالفضائل، وهي كثيرة لا تنحصر في دائرة معينة ولكنها تشمل مناحي الحياة كلها.   وهذه الفضائل على كثرتها تتبع من الإيمان وفيه نصب، فهي شعبه التي يتشعب بعضها من بعض، وتحت كل شعبة من الخصال الكريمة ما لا ينحصر.   وهذه الشعب والخصال ميزانها العدل المطلق والمساواة التامة بين الناس في الحقوق العامة.   فالناس جميعاً سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.   ومن هذا المنطلق كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحذر المسلمين من أن يرى أحدهُم لنفسه فضلاً على الآخر بنسب أو حسب أو مال أو سلطان، ويناهم عن استخفاف بعضهم ببعض مهما ظهر فيه من العيوب الخلفية والخُلقية وغيرها مما يراه قصار النظر عيباً، كفلة المال وضآلة الوظيفة ونحو ذلك.   فإن من أفتك الآفات التي تغتال مشاعر الإخاء والمودة بين المجتمعات – استخفاف إنسان بإنسان؛ والنظرة إليه في سخرية واستهزاء فذلك من شأنه أن يبعث في النفوس الكراهية والعدوان والتنافر والتناحر.   يقول الله عز وجل:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

(سورة الحجرات: 11).

فالخطاب في الآية للمؤمنين الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم بعد؛ لأن المؤمن الحق لا يأتي بهذه الأفعال المنكرة بوحي من إيمانه. والدليل على هذا المفهوم من الخطاب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث رواه الترمذي في سننه:

"يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ".

وقد خاطبهم بوصف الإيمان تحريضاً لهم على استكمال شعبه وخصاله؛ وشحذاً لعزائمهم في التماس المعالي عن طرق التمسك بالفضائل لا عن طريق الاعتزاز بالنسب والاعتزاز بالمال والجاه.   والسخرية من الناس من أعظم أنواع الأذى، فمن منا يحب أن يسخر منه إنسان كائناً من كان.

إن في السخرية من الناس جرح لمشاعرهم وتنقص من إنسانيتهم واحتقار لمكانتهم بين الناس ومقامهم عند الله عز وجل؛ فإن المؤمن أكرم عن الله من ملائكته؛ لأنه أطاعه وانقاد لأوامره وغالب نفسه وهواه وشيطانه ودنياه، وآثر رضا خالقه ومولاه.   ولنا في هذه الآية وما بعدها من سورة الحجرات مواقف كثيرة في وصايا أخرى إن شاء الله تعالى.  

والآن نشرع في بيان ما اشتملته هذه الوصية من العظات والعبر. فنقول: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ" نهي عن الأذى قليله وكثيره بوجه عام. والأذى لفظ يطلق على الضرر الخفيف غالباً، بدليل قوله تعالى:

{ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى }

(سورة آل عمران: 111).

 أي لن يصلوا إلى الإضرار بكم مهما دبروا لكم من المكايد إلا ضرراً خفيفاً محتملاً، يمر بكم، فلا تعبأون به، وفي هذا الخبر طمأنينة لأصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعلى ضوء هذا المعنى اللغوي الفريد نستطيع أن نفهم هذا النهي فهماً صحيحاً كما ينبغي، فالمؤمن أخو المؤمن لا يشوكه بشوكة إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولا يجرح مشاعره بكلمة نابية، ولا يحقر من شأنه بنظرة خائنة، ولا يضمر له في قلبه شيئاً يسوؤه. يقول الله عز وجل:

{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ }

(سورة غافر: 19-20).

والمؤمن الحق هو الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ويكره لأخيه ما يكره لنفسه، فإذ هم بإذائه تحركت التقوى في قلبه ونازعته فيما يريد أن يقدم عليه وحالت بينه وبين ذلك ودعته إلى كظم الغيظ والعفو والصفح الجميل.   وما أحسن قول عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء".   وفي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عِبَادَ اللَّهِ" إشعار للمؤمنين بعظم الإثم وسوء العاقبة، فإن الله يغار على عباده وينتقم لهم ممن آذاهم بأي نوع من أنواع الأذى مهما كان خفيفاً. 

والمراد بالعباد هنا المؤمنون بوجه خاص، وغيرهم من المسالمين لهم بوجه عام.

 فقد أباح الله لنا معاملة أهل الكتاب، وحثنا على الإحسان إليهم إن أظهروا لنا حسن النوايا، ولم يبدؤونا بالأذى، أو يعينوا علينا عدواً.

قال تعالى:

{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

(سورة الممتحنة: 8-9).

ولفظ العباد مشتق من العبادة غالباً، بخلاف لفظ العبيد فإنه مشتق من العبودية غالباً؛ ولذا فإن التعبير بلفظ العباد يشعر بأولئك الذين يؤمنون بالله ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً، ومن تتبع آيات القرآن يجد أن هذا الوصف يكاد يكون للمؤمنين وحدهم.   وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ" هو من باب عطف الخاص على العام، أو هو من باب عطف الأشد على الأخف، إن قلنا إن المراد بالأذى أخف أنواع الضرر كما أشرنا.   والمعايرة هي مواجهة المرء بأخس عيوبه، وغمزه في نسبه ومخاطبته بصفة من الصفات التي لا يحب أن يخاطب بها.   وفي ذلك عدول عن الإيمان الصحيح ودنو عن الخلق الفاضل والسلوك النبيل، وشروع في العدوان الذي قد يبعث الحمية الجاهلية من مكامنها، فتشتعل نار الحرب بسبب شرارة تنطلق من هنا أو هناك، فلا تضع أوزارها بين المتخاصمين إلا بعد أمدٍ مديد وجهد جهيد.   ومعظم النار من مستصغر الشرر. 

وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"وَلَا تَطْلُبُوا عَوْرَاتِهِمْ"

 أي لا تتبعوها وتلتمسوا معرفة كل شيء عنها؛ فإن في ذلك اعتداء على الأعراض والحرمات، وكشفاً لما أمر الله بستره وصيانته عن الأعين والأيدي.   وليس هناك ظلم أفظع من هذا، فأعز شيء لدى الإنسان عرضه، وهو يحرص كل الحرص على طهره وعفافه، فإذا جاء إنسان كائناً من كان لينال منه بأي وسيلة من الوسائل، فإنه يكون قد نزع برقع الحياء من وجهه وأتى من الأوزار ما يستعصي على التوبة النصوح؛ إذ من شروط التوبة النصوح رد المظالم إلى أهلها أو استسماحهم فيها، وذلك غير ممكن بالنسبة لهذا العمل الجنائي الخطير.   ومن هنا كان تتبع العورات من الآثام الكبرى التي يعاقب الله عليها بالمثل في الدنيا، فمن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه في عقر بيته أو في جوف رحله كما جاء في رواية أخرى.  

والعورة لها معنيان:

المعنى الأول: هو ما يجب ستره عن الناس. 

 والثاني: ما يجب الإنسان في خلقه أو في خُلُقه، وهذه وتلك لا ينبغي على المرء أن يتتبعها ويستقصى أحوالها؛ لأن ذلك يتنافى مع محاسن الإسلام ومثله العليا، وفيه من الدوان ما قد عرفت. 

 وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ".

 وكل امريء له عيوبه وله مزاياه، والعاقل من شغله عيبه عن عيوب الناس.   ومن نظر في عيبه استعظم ذلة نفسه، ومن سل سيف البغي قتل به.   والمسلم الحق من عاش بمعزل عن عيوب الناس، بمعنى أنه لا يسعى لجمع تلك العيوب من هنا وهناك، ولا يحاول أن يطلع عليها، حتى لا يسلط الله عليه من يفعل ذلك به، فكما يدين يدان، وعلى الباغي تدور الدوائر.

وما أحسن قول الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

إن شئت أن تحيا سليماً من الأذى          وحظك موفور وعرضك صين لسانك

لا تـذكر بـه عـورة امـريء                فكلك عــورات وللنـــاس ألسـن

وعينـك إن أبـدت إليك معائباً              فصنها وقل يا عين للناس أعيـن

وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى       وفارق ولكـن بالتـي هي أحســن


المقالات ذات الصلة

مقالات وموضوعات متنوعة

المقالات

اشترك للإطلاع على جديد الموقع