أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ. وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ".
بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا - الموت
وأما الخامسة التي أوصانا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمبادرتها بالأعمال فهي "خاصة أحدنا" وهي الموت.
والموت كأس كل الناس شاربه، وبا كل الناس داخله، ونسيانه ضلال مبين، والعفلة عنه وعما بعده دليل على فساد العقل وقسوة القلب.
والكيس من الناس أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً.
ولا شك أن الإكثار من ذك الموت يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، ويدفع المسلم إلى الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره، ويريح النفس من دعاويها الباطلة وقوله بلسان الحال والمقال: لو كان كذا لكان كذ وكذا.
والدنيا مزرعة للآخرة، وخير الناس من طال أجله وحسن عمله، وشر الناس من طال أجله وساء عمله.
والمؤمن الحق من يعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، ويتخفف من ذنوبه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، مستعيناً بالله عز وجل في فعل الطاعات وترك المعاصي قائلاً بلسان الحال والمقال ما قاله شعيب لقومه:
{ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }
(سورة هود: 88).
ومن أهم ما يبتدر به الموت إن يتوب العبد إلى الله توة نصوحاً في جميع أوقاته وحالاته، وأن يبرهن على صدقه في توبته بترك الذنوب وعدم الإصرار عليها؛ فإن من يتوب وهو يصر على الذنب كان كالمستهزيء بربه تبارك وتعالى.
وقد سمعت رابعة العدوية رجلاً يستغفر الله وهو على الذنب، فقالت: إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار. وكأنها تعرض به أو تعظه بطريقة مهذبة.
وأكمل الناس إيماناً – أعظمهم لله إخلاصاً، وأكثرهم شكراً، وأشدهم ندماً على ما بدر منهم، وأسرعهم إلى صنائع المعروف، وأبعدهم عن مصارع السوء، وأشدهم حباً للقاء الله عز وجل.
ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
وسيأتي في ذكر الموت آثار كثيرة في وصايا أخرى إن شاء الله تعالى.
وأما السادسة فهو "أمر العامة" أي ولاية شئونهم الدنيوية.
فعلى المسلم أن يبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يشغله أمر الناس عن فعل الكثير من الطاعات، فربما يتولى منصباً يشغل أكثر أوقاته فلا يتمكن من تأدية الوظيفة المهمة التي خلقه الله من أجلها، وهي العبادة.
نعم إن تولى شئون الناس نوع من العبادة ولكنه لا يفي بكل ما أمره الله به.
ومن هنا كان على المسلم أن يوازن بين مطالب الدين ومطالب الدنيا موازنة مبنية على ترجيح الجانب الأخروي على الجانب الدنيوي؛ فالآخرة خير وأبقى.
وبعد، فإن هذه الوصية دافعة لنا إلى ما فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة، وإنها لعزمة من عزمات نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأخذنا بقوة إلى الجد في القول والعمل والمسارعة إلى ما فيه مرضاة الله عز وجل بكل ما أوتينا من قوة وحزم، قبل أن يأت يوم لا بيع فيه ولا خلال.
وتهون علينا مصائب الدنيا وتزهدنا فيها وتقوى همتنا في طلب الآخرة.
ومن جعل الآخرة مبلغ همه ومنتهى أمله فقد فاز فوزاً عظيماً.
روى ابن ماجه في سننه عن عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق.
المقالات ذات الصلة
مقالات وموضوعات متنوعة
لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الأسس التي يبنى عليها الدين ارتضاه الله لعباده منذ خلقهم، وهو أصل أصيل فيه، بدونه لا يكون هناك للناس دين.وبيان ذلك أن الدين يقوم على أربعة أسس رئيسة، هي: العقيدة الصحيحة المبنية على التوحيد الخالص، والعمل الصالح بوصفه برهاناً على صحتها وسلامتها، والخلق الفاضل وهو ينبوع العمل الصالح ومصبه، والسلوك النبيل وهو تر...
فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ". الوضوء طهارة مائية من الحدث الأصغر مشتق من الوضاءة، وهي النور والبهاء والنقاء والصفاء.
لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا
ولما كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم الخلق عند الله وأكرم الرسل خشى أن يُعظم قبره تعظيماً يؤدي إلى إفساد العقيدة الصحيحة، أو إساءة الأدب مع الله تبارك وتعالى – نهاهم عن المبالغة في تعظيمه حياً وميتاً.
الرَّجُلُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ
وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ: عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: "لَا يَنْفَتِلْ، أَوْ لَا يَنْصَرِفْ، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا". هذا الحديث أصل من أصول الإسلام اس...
مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ". التعاون على البر والتقوى أصل من أصول الدين، تجتمع فيه المكارم كلها، وتلتقي عنده جميع أصول ال...
مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ
الصلوات الخمسة تجديد للعهد الذي بين العبد وربه، فإذا صلى العبد صلاة اطمأن قلبه بها وشعر بالوفاء قد ملأ أعماق قلبه، وأحس بأنه أدى الأمانة وتحلل من الحق الذي قطعه على نفسه بالإسلام وطالبه الله به في هذا الوقت الذي حدده له، ثم ينخرط في عمله ويشغل بأمور دنياه فترة قصيرة من الزمن، فإذا بالمنادي يناديه حي على الصلاة حي على الفلاح، فيعود إلى ساحة الصلاة؛...