مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ

مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ

مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ".

التعاون على البر والتقوى أصل من أصول الدين، تجتمع فيه المكارم كلها، وتلتقي عنده جميع أصول الأخلاق، وتجتمع عليه جميع القلوب المؤمنة.

يقول الله عز وجل:

{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

(سورة المائدة: 2).

والتعاون هو العون المتبادل بين الإنسان وأخيه الإنسان فيما يعود على كل منهما بجلب النفع ودفع الضرر.

والدين إنما وضع لمصالح الناس في العاجل والآجل.

ومصالح الناس تتمثل في أمرين أساسين هما: دفع المفاسد، وجلب المنافع.

ودفع المفاسد مقدم على جلب المنافع، كما يقول علماء الأصول، وهو ما يعبر عنه القرآن بالبر.

والبر كلمة واسعة الدلالة تشمل خصال الخير كلها على كثرتها ووفرتها.

ولا بر من غير تقوى؛ لذا قرن بها في الآية.

وهي أيضاً كلمة واسعة الدلالة تشمل بعمومها الوقاية من كل شر يضمره الإنسان في نفسه أو يضمره له غيره.

وهي إذا وقرت في قلب امريء كانت له دواءً ناجعاً لكل داء.

قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:

"لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء".

والناس للناس، لا غنى لأحد منهم عن الآخر؛ فإن بعضهم ظهير لبعض مهما تباعدت بهم الأقطار أو تتاءت بهم الديار.
 
فالإنسان – كما يقول ابن خلدون في مقدمته – مدني بطبعه. أي لا يستطيع العيش بمعزل عن أبناء جنسه، ولا يتمكن بمفرده من قضاء حوائجه مهما أوتي من قوة، فقد خلق اجتماعياً، يحب التجمع ويكره العزلة.
 
والدلالة كلها تشهد بذلك، فرغيف العيش الذي يأكله – قد عملت في صنعه وإعداده عشرات الأيدي، ومن أول من يعد البذر للبيع إلى من يعده للأكل، بل ينتهي الأمر عند الذي يأكله، فتشترك فيه جميع أعضائه بالمضغ والبلع والهضم وغير ذلك من العمليات التي يصعب علينا عدها وحصرها.
 
الناس للناس من بدو وحاضرة             بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
 
والناس يتعاونون على البر والتقوى ما داموا متمسكين بروح الإسلام، فإن ضعف الإيمان وقل الوازع الديني وانصرفت القلوب إلى الأثرة وحب الذات – لم يكن بينهم بر ولا تقوى.
 
وعندئذ يشعر الإنسان بأنه يعيش وحيداً في خاصة نفسه، ولا يشعر به أحد إذا جاع أو مرض أو وقع في مأزق، مع أنه يعيش في أرض ليس فيها شبر واحد إلا وعليه إنسان مشغول بنفسه.
 
يقول الشاعر الحكيم.
الناس للناس ما دام الحيـاءُ بهــم           والعسر واليسر ساعات وأوقات
لا تقطعن يدا المعروف عن أحد           ما دمــت ترجــي فالأيــام تارات
 
والحياء شعبة من أهم شعب الإيمان، فهو خير كله، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره، فمن لم يكن لديه حياء – لم يكن لديه إيمان، وبالتالي لا يكون في قلبه رحمة لإنسان.

وهذه الوصية دعوة لنا إلى وقاية أنفسنا من كرب يوم القيامة بتنفيس كرب الناس وتخفيف آلامهم؛ ليكون الجزاء من جنس العمل.
 
فمن نفس عن معسر بشيء من ماله لسد حاجته وإدخال السرور عليه وإشعاره بأنه ليس وحده في هذه الحياة، مبتغياً بذلك وجه الله تعالى – فإن الله عز وجل ينفس عنه بتنفيس هذه الكرب كرباً كثيرة؛ بناء على أن الحسنة بعشر أمثالها مع مضاعفتها بقدر الإخلاص فيها.

ويقول الله عز وجل:

{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

(سورة البقرة: 245).

ويقول جل شأنه:

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

(سورة البقرة: 265).

ولا فرق بين من يعطي المعسر ما يسد به حاجته ومن يَحُطُّ عنه دينه كله أو بعضه أو ينظره إلى ميسرة.
 

يقول الله عز وجل:

{ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

(سورة البقرة: 280).

 ويبدو لغير المتأمل أن المتصدق أفضل من المنظر إلى الميسرة، والصحيح أن التفاضل إنما يكون بحسب الإخلاص لله وبين هذا وذاك.
 
فهناك من يكون معسراً في وقت دون وقت، وهو قوي سوى ولديه مال محبوس عنه إلى حين، فهذا يكون إنظاره أولى من التصدق عليه، لأن الصدقة لا تجوز على غنى ولا على ذي المرة السوي، كما جاء في حديث الترمذي.
 
وهناك من يكون التصدق عليه أفضل، وهو الفقير والمسكين ومن في حكمهما من ذوي الحاجات.
 
ولا شك أن من أنظر المعسر إلى حين ميسرة يكون من ذوي المروءات حقاً.
 
وأهل المروءة هم أهل السخاء والجود والكرم، وإن كان العبد كريماً فإن الله أكرم

{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }

(سورة الرعد: 8).

ومن تجاوز عن معسر تجاوز الله عنه يوم القيامة.
 
ر

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ".

وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، وَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُعْسِرِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ".

وروى مسلم – أيضاً – عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

"أُتِيَ اللَّهُ تعالى بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: - وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا – قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالى: "أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي". فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هَكَذَا سَمِعْنَاهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ".

وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوْ يَضَعْ عَنْهُ" لا يقتصر على التجاوز عن الديون كلها أو بعضها فحسب، ولكنه يتعدى إلى كل حق يستحب للإنسان في بعض الأحوال أن يتجاوز عنه؛ تحلماً وتكرماً، كأن يتجاوز عن سبه له، أو أخذه شيئاً من ماله بغير حق، أو الكيد له والتقصير في تأدية واجبه نحوه، إلى غير ذلك من الأمور التي يتسحب فيها العفو والصفح.
 
ولقد كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أكرم الناس على معسر، ومن أحلمهم على مخطيء، ومن أشدهم عفواً على مسيء.
 
وكان أصحابه من أشد الناس محاكاة له في خلقه الفاضل وسلوكه النبيل.
 
وكان التابعون لهم يحذون حذوهم بقدر طاقتهم؛ ليلحقوا بهم.

يقول الله عز وجل في وصفه والثناء عليه:

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }

(سورة آل عمران: 159).

ولين جانبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معناه التجاوز عن المسيء منهم وأخذه بالحلم والصفح، والحكمة والموعظة الحسنة، حتى ينقاد لأمر الله، إن شاء الله له الهداية.

المقالات ذات الصلة

مقالات وموضوعات متنوعة

المقالات

اشترك للإطلاع على جديد الموقع