إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ

إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ

إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

"إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ".

صلة الأرحام أصل من أصول الدين، وشعب من شعب الإيمان، وبرهان على سلامة القلب وصدق اليقين.

وهي خلق يزين صاحبه، ويرفع من شأنه بين أهله وأقربائه وجيرانه وكل من يتصل به من قريب أو بعيد.

وليس هناك أحد أفضل ممن يصل رحمه ويحسن إليهم ويعطف عليهم ويحب لهم الخير كما يحبه لنفسه.

وقد أوصى القرآن الكريم بصلة الأرحام محذر من قطيعتها في آيات كثيرة.

فقال جل شأنه:

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }

(سورة النساء: 1).

أي واتقوا الله الذي يسأل به بعضكم بعضاً، واتقوا قطيعة الأرحام.

وقال عز وجل:

{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا }

(سورة النساء: 36).

وقال عز من قائل:

{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا }

(سورة الإسراء: 26- 28).

أي إن لم تستطع أن تقضي لهم حوائجهم فعدهم وعداً حسناً لحين ميسرة وقل لهم قولاً يسهل فهمه ويقبل به عذرك، ولا تعرض عنهم بغضاً لهم ولكن أعرض عنهم ابتغاء رزق من ربك ترجوه لتعطيهم منه.

وقال جل وعلا:

{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ }

(سورة الشورى: 23).

وقد أوصى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصلة الرحم في أحاديث كثيرة لا يكاد يحصيها العادون منها:

1- ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ".

2-  وروى البخاري ومسلم أيضاً عن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ".

ومعنى ينسأ له: يؤخر له في أجله، والتأخير عبارة عن البركة في العمر. فقد يعيش الرجل قليلاً وتكون أيامه عامرة بأفعال الخير وصنائع المعروف.

وقد تكلمنا عن صلة الأرحام في الوصية السابعة عشرة بعد المائة من هذا الكتاب فلا نعيد ما ذكرناه هنا، ولكن نكتفي بشرح هذا الحديث وبيان ما فيه من عظات وعِبر وأحكام وحِكم.

قوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ"

تحذير من قطيعة ما أراد الله أن يوصل بسوء المعاملة وسوء الظن وسوء الخلق.

وَذَاتِ الْبَيْنِ: هي ذات الوصل التي تربط بعض الناس ببعض بأي رابطة من الروابط المعتبرة، كالقرابة والجوار والصداقة والزمالة في العمل والصحبة في الطريق ونحو ذلك من العلاقات الاجتماعية.

ومن أعظم هذه الصلات الأُخوة الإيمانية، فهي العروة الوثقى بين عباد الله الصالحين، بين أمة لا إله إلا الله أجمعين من لدن آدم عليه السلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

فالأخوة الإيمانية مدلولها واسع يشمل الإنسانية المؤمنة كلها.

فالمسلم أخو المسلم، لا يخذله، ولا يحقره، ولا يحسده. كما جاء في الحديث الصحيح الذي تقدم ذكره في هذا الكتاب.

والبين لفظ له معنيان متضادان فهو بمعنى الوصل والقرب وبمعنى القطع والبُعد.

يقال تقطع بينه أي وصله، ومنه قوله تعالى قي قراءة:

{ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ }

(سورة الأنعام: 94)

– بضم النون – يعني وصلكم.

وجاءت بمعنى القطع والبعد في مثل قول محمود سامي البارودي:

محا البين ما أبقت عيون المها مني       فشبت ولم أقض اللبانة من سني

وسمي الموت بينا لأنه يفرق بين المحبين.

وهذا التحذير من سوء الصلة بين المؤمنين يشير إلى أمرين هامين:

الأمر الأول:

المحافظة على صبغة الله وهي الإيمان؛ لأن سوء الصلة تفسد القلب وتعكر صفوه وتُذهب نوره فلا يكون للإيمان حينئذ محل فيها.

والي يفسد العلاقات بين الناس هو الحقد والحسد، وسوء الظن والخيانة والغدر والنفاق، والشماتة وسوء الأخلاق بوجه عام.

الأمر الثاني: المحافظة على التعارف الذي خلق الله الناس من أجله، والذي أشار إليه بقوله:

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا }

(سورة الحجرات: 13).

ومعنى التعارف في الآية التقارب في الأهداف والمنافع، والتجاور في الديار وميادين الأعمال، والتعاون على البر والتقوى، وتحقيق ما يصبو إليه كل منهم في هذه الحياة.

وهذا التعارف هو الذي يؤدي إلى التآلف والتحابب الموصول بحبل الله المتين؛ إذ
هو الذي بيده نواصي القلوب، يؤلف بينها إن شاء ويفرق بينه إن شاء.

{ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

(سورة الأنفال: 63).

وصلة الأرحام تعمق جذور هذه الأخوة الإيمانية، وتجعل لها طعماً خاصاً؛ إذ يكون التراحم مبنياً عليهم معاً. فيقال: فلان أخو فلان في الإيمان وأخوه في النسب والرحم.

وصلة الجوار كصلة الرحم، فإذا تجاور المؤمنون في الديار وغيرها، وكانت بينهم روابط الدم والنسب، كانوا كنفس واحدة تجاذبتهم وشائج القرب والحب من كل جانب، فكان الشأن فيهم أن يصلحوا ما بينهم بهذه الروح التي صهرتهم في بوتقة واحدة، ويقيموا أمرهم على الدين الذي ارتضاه الله لهم، وفطرهم عليه، وتعبدهم به.

وهذا الدين هو العروة الوثقى التي لا تنفصم أبداً ولا يتفرق أهلها بدداً، ولا تكون حياتهم سُديً.

وذلك لأن تواصلهم وتراحمهم هو برهان صحة إيمانهم وسلامة يقينهم.

يقول الله – عز وجل – :

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

(سورة الأنفال: 1).

وقد نزلت هذه الآية في غزوة بدر حين اختلفوا على الغنائم، فقال المهاجرون: هي لنا؛ لأننا خرجنا من ديارنا وأموالنا ونحن أحوج إليها من غيرنا.

وقال الأنصار: نحن أولى بها منكم لأننا آوينا ونصرنا.

وقال الشباب من هؤلاء وهؤلاء: نحن أولى بها؛ لأننا القوة الضاربة، والطاقة الفعالة.

وقال الشيوخ: نحن أولى بها لأننا أهل الرأي والمشورة، إلى آخر ما قالوا.

وقد كانوا في غفلة – حين اختلفوا – سرعان ما انتبهوا منها، فردوا الأمر إلى الله – عز وجل – وسألوا الرسول – عليه الصلاة والسلام – في شأنها، فأنزل الله حكمه في هذه الآية، وأمرهم بالتقوى؛ فإنها هي خير ما يعصمهم من النزاع على حطام الدنيا والاختلاف على أمر ما كان ينبغي أن يختلفوا عليه.

وأمرهم بإصلاح ذات البين؛ لأن في ذلك صلاح أمرهم في الدنيا والآخرة.

فالاتحاد قوة والتفرق ضعف، والاعتصام بالله هو عماد قوتهم، وسبيل هدايتهم، والتمسك بكتابه وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أساس أخوتهم، ومنهج حياتهم، فلا يقيهم شر أنفسهم إلا الاحتكام إليه والعمل به.

فإذا دب الوهن في أمة كان السبب فيه الانحراف عن الصراط السوي الذي اختاره الله لعباده، وأمرهم باتباعه.

وعندئذ تقع الأثرة بين أفرادها، ويقول كل واحد منهم نفسي نفسي، فينال منهم عدوهم نيلاً يفرقبه جمعهم، ويشتت شملهم، ويذهب قوتهم، فلا تقوم لهم قائمة إلا إذا عادوا إلى الصراط المستقيم: صراط الله الذي له ما في السموات والأرض.

{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

(سورة الأنعام: 153).

وقد وصف النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ بأنها الحالقة، وقد فسرها في حديث آخر بقوله:

"لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ".

وحلق الدين إزالته من القلوب كما يزال الشعر من الرءوس.

نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ به من الضلال بعد الهدى.

المقالات ذات الصلة

مقالات وموضوعات متنوعة

المقالات

اشترك للإطلاع على جديد الموقع