قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ. فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا".
النَّهْيِ عَنْ نَشْدِ الضَّالَةِ فِي الْمَسْجِدِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
بنيت المساجد لإقامة الشعائر من صلاة، وذكر، وتلاوة القرآن، وتدريس العلوم الشرعية واللغوية وغيرها من العلوم التي تفيد الناس في دينهم ودنياهم.
وتعظيم المساجد من باب تعظيم الشعائر، وهو أمارة من أمارات التقوى، وبرهان من براهين سلامة القلوب مما يعكر صفو الإيمان، ويكدر جلوة اليقين.
يقول الله عز وجل:
{ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }
(سورة الحج: 32).
أي فإن تعظيمها ناشيء من سلامة القلوب وإخلاصها وخلوها من الشبهات.
وأشد الناس حباً لله أشدهم تعلقاً بالمساجد، وهم من أولئك الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وقد شاء الله أن ترفع هذه البيوت المطهرة عن كل ما يدنسها ويتنافى مع حرمتها ويتناقض مع وظيفتها.
قال الله تعالى:
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
(سورة النور: 36-38).
وعلى ضوء هذه الآيات يعرف المسلمون قواعد الأدب مع الله عز وجل، ومناهج السلوك في دخولها والمكث فيها، والقيام بما يجب لله من العبادة والذكر والتفكر والاعتكاف، والتعلم والتزام السكينة والوقار، والرغبة في فضل الله الواسع وثوابه العظيم في جنات النعيم.
ومن هذه الآداب التي ينبغي على المسلم مراعاتها في المسجد عدم نشدان الضالة، فإن المساجد لم تبن لهذا، كما جاء في الحديث.
ونشدان الضالة: طلبها والسؤال عن مكانها. يقال: نشد ضالته طلبها، ويقال: أنشدها يعني عرفها بأوصافها.
والضالة: هي الناقة والبعير وما يقاربهما من البهائم، كالبقرة والحمار، ولا يدخل فيها النعجة والكبش، ولا ذكر الماعز ولا أنثاه.
وقال الجوهري: هي ما ضل من البهائم، فأدخل فيها جميع أنواعها في التعريف.
وتطلق الضالة مجازاً على ما ضل وغاب من الماديات والمعنويات، فيقال فلان وجد ضالته من المال أو العلم.
ولهذا يقال: الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها أنى وجدها.
والمراد بالضالة في هذا الحديث: الناقة والجمل ونحوهما من البهائم.
فمن سأل في المسجد عن نافته أو جمله أو بقرته أو حماره كره ذلك كراهة تحريم، وقيل له: لا ردَّها الله عليك؛ لأن المسجد لا تأوى إليه البهائم، وليست هي موضعاً لنشدان الضالة على كل حال.
والضالة إنما تضل طريقها في الصحاري والمزارع والطرقات العامة، فكان موضع السؤال عنها هو المكان الذي يغلب على الظن أنها ضلت فيه.
ولكن هل يقاس على البهائم كل شيء ضاع من صاحبه؟
الجواب: لا، وإلا فماذا يفعل من ضاعت حافظته، أو فقد حذاءه، أو ساعته أو كتابه أو حقيبته.
إنه حينئذ لا يكره أن يسأل عنها في الموضع الذي فقدها فيه، لكن بصوت معتدل، وفي وقت لا يكون الناس فيه مشغولين بصلاتهم أو بتلاوة القرآن، أو بتلقي دروس العلم.
أما إن سأل عن ضالته التي فقدها في المسجد في هذه الأوقات فإنه يكون قد أخل بالأدب، وعندئذ يقال له: لا ردها الله عليك تأديباً له.
والدليل على أن الذي يقال له: لا ردَّها الله عليك هو من سأل عن بهيمته الضالة في المسجد ما رواه مسلم في صحيحه عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلاً نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر، فقال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَا وَجَدْتَ إِنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ".
وقد سألني رجل عمن يستعمل مكبر الصوت الخاص بالمسجد في النداء على طفل ضال، هل يجوز ذلك، علماً بأن المسجد في قرية، وليس هناك مكبر صوت غير مكبر الصوت الخاص بالمسجد؟
فقلت: نعم يجوز ذلك للضرورة، ولكن يستحب أن ينادى عليه بمكبر الصوت على باب المسجد إن أمكن ذلك، فإن لم يتمكن فلا بأس إن شاء الله.
ويقاس على نشدان الضالة البيع والشراء وإنشاد الشعر، والجدل الذي يؤدي إلى خصومة، والضحك والكلام بصوت مرتفع، والكلام الكثير الذي يخلو من الفائدة، والنوم لغير المضطر، وما إلى ذلك من الأمور التي تخل بحرمة المسجد وتتنافى مع سموه وجلاله.
ولكل فعل من هذه الأفعال المخلة بالأدب أحكام تتعلق بها، وهي تتفاوت في الكراهة.
فيكون بعضها أشد من بعض، منها ما يصل إلى حد الحرمة، وعليك بالرجوع إلى كتب الفقه الموسعة إن أردت المزيد من العلم.
والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
المقالات ذات الصلة
مقالات وموضوعات متنوعة
مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ
وقد أوصانا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك في أحاديث كثيرة، كان منها هذا الحديث الذي يعتبر – في نظري – من أهم الوصايا التربوية التي تتعلق بالنشئ.وذلك لأن الصلاة عماد الدين، وركنه الركين، وهي الصلة الوثيقة بين العبد وربه – عز وجل -، كما بينا في وصية سابقة. ولها من الفضائل الكثيرة ما عرفناه، وما لم نعرفه.
لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الأسس التي يبنى عليها الدين ارتضاه الله لعباده منذ خلقهم، وهو أصل أصيل فيه، بدونه لا يكون هناك للناس دين.وبيان ذلك أن الدين يقوم على أربعة أسس رئيسة، هي: العقيدة الصحيحة المبنية على التوحيد الخالص، والعمل الصالح بوصفه برهاناً على صحتها وسلامتها، والخلق الفاضل وهو ينبوع العمل الصالح ومصبه، والسلوك النبيل وهو تر...
لَا يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَحْقِرُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ؟ قَالَ يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لَا يَقُولُ فِيهِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا م...
مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ
الصلوات الخمسة تجديد للعهد الذي بين العبد وربه، فإذا صلى العبد صلاة اطمأن قلبه بها وشعر بالوفاء قد ملأ أعماق قلبه، وأحس بأنه أدى الأمانة وتحلل من الحق الذي قطعه على نفسه بالإسلام وطالبه الله به في هذا الوقت الذي حدده له، ثم ينخرط في عمله ويشغل بأمور دنياه فترة قصيرة من الزمن، فإذا بالمنادي يناديه حي على الصلاة حي على الفلاح، فيعود إلى ساحة الصلاة؛...
لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ
فمن آمن بالله إيماناً كاملاً، أحب لأخيه ما أحبه لنفسه، فإن أصابه خير هنأه. وإن أصابه ضر واساه ونفس عنه كربته وشاركه آلامه وآماله. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الوصية يخاطب المؤمنين الذين لم يكتمل إيمانهم بعد محذراً من آفة تجلب على صاحبها البلاء، وتورثه الشقاء، وتحرمه من التمتع بطيبات الحياة، وهي الشماتة.
أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ
إذا أراد الله بعبد خيراً، هداه إلى دينه القويم وصراطه المستقيم، وثبت قلبه على الإيمان الصادق فسعد بذلك في دنياه وآخرته. وعبد الله بن سلام حبر من أحبار اليهود، كان واحداً من أولئك الذين هداهم الله إلى الإسلام، فاجتمع عليه لبه وقلبه فعقل عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيراً من الكلمات الجامعة والحكم البالغة، ووعاها وأداها كما س...