عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟!". قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي". وَفِي رِوَاية لَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنِّا، وَمَنْ غَشَّنا فَلَيْسَ مِنِّا".
مَنْ غَشَّنا فَلَيْسَ مِنِّا
كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شدة تواضعه يذهب إلى الأسواق بنفسه؛ ليشتري ما هو في حاجة إليه، وليتعرف على حال التجار فيها، فيبارك من تحلى بالصدق والأمانة في المعاملات، ويعظ من يراه مخالفاً لما عليه سلوك المؤمنين المخلصين، ويعلمهم ما يحل لهم وما يحرم عليهم من الأخذ والعطاء، والبيع والشراء.
فمر يوماً على رجل أمامه صبرة – أي كومة من طعام – يبيع منها، فأدخل يده في قلبها، فنالت أصابعه بللاً، وكأنه كان يعرف بنور بصيرته أن في الصبرة طعاماً قد أصابه بلل ينقص من قيمته، ولعله لمح ذلك الغش في وجه الرجل، أو من خلال كلامه مع الناس؛ فمن حاول إخفاء شيء ظهر على صفحات وجهه أو فلتات لسانه.
ولو لم يعرف ذلك ما أدخل يده في أعماق الطعام.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد بدا عليه شيء من الغضب:
"مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟!".
إنه ينكر عليه سوء صنيعه بإخفاء الطعام المبلول تحت الطعام الجيد.
قال الرجل معتذراً وهو في منتهى الخجل – والوجل – :
"أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ".
يعني أصابه المطر، فالعرب يسمون المطر سماء، والسحاب سماء أيضاً، وكل ما علاك فأظلك فهو سماء في لغتهم.
فقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟".
وهو طلب فيه رفق وحلم؛ إذ لم يقل له: فهلا جعلته فوق الطعام؛ فإن "ألا" للطلب برفق ولين، بخلاف "هلا" فإنها للطلب بشدة وعنف غالباً.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حليم كريم رحيم بطبعه، يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة المقنعة.
فقد قال لهذا الرجل وأمثاله: "مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّي" أي من صدر الغش منه فليس على نهجي وسنتي،وليس هو من أحبابي، ولا تناله شفاعتي، ولا يحظى بالانتساب إلى يوم القيامة، وإن كان لم يخرج بذلك عن الإسلام.
وفي رواية:
"مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنِّا، وَمَنْ غَشَّنا فَلَيْسَ مِنِّا".
والمعنى واحد، ولكن اقتران الغشاش بمن يحمل السلاح على المؤمنين يدل على أنه عدو لهم، يحاربهم في معايشهم، ويحمل عليهم سلاح البغي فيقتلهم به، ويأكل أموالهم بالباطل، وبهذا السلوك لم يكن منهم على الحقيقة؛ إذ لو كان منهم لرحمهم من ظلمه، وصدقهم في أقواله وأفعاله، وكان أميناً في بيعه وشرائه.
فالغشاش إذا عدو نفسه وعدو أمته، قد سل البغي عليهم، ومن سل سيف البعي قتل به، ومن صارع الحق صرع، وعلى الباغي تدور الدوائر.
إن الغشاش – أو يكون سبباً في إصابته بمرض شديد لا يبرأ منه.
وكثيراً ما نسمع ونقرأ عن حالات التسمم التي تصيب الأطفال في المدارس بسبب وجبات غذائية قد فات وقت صلاحيتها للتناول.
وكثيراً ما نسمع ونقرأ عن أدوية مغشوشة قد أدت إلى وفاة عشرات المرضى في البيوت والمستسفيات الخاصة والعامة.
فأين يذهب الغشاش من عذاب الله في الدنيا والآخرة؛ وكيف نسمح له أن يعيش بيننا وهو عدونا.
ومتى يستجيب هؤلاء المردة لوازع العقل وداعي السماء!
إنه في غفلة عن مصيره المنتظر وقدره المحتوم.
يقول الله عز وجل:
{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }
(سورة الفجر: 14).
ويقول جل شأنه:
{ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ }
(سورة لقمان: 24)
ويقول عز من قائل:
{ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا }
(سورة مريم: 75).
ويقول سبحانه:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }
(سورة النساء: 29-30).
ويقول – تبارك وتعالى:
{ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ }
(سورة إبراهيم: 42-43).
والإسلام يطلب من معتنقيه قلباً يقظاً وضميراً حياً، تحفظ به حقوق الله وحقوق الناس، وتصان به الأعمال من التفريط والإهمال والغش والخداع.
ضميراً حياً مع فهم كامل لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا الضمير يولد مع المرء ويعيش معه في أعماقه، فإما أن يظل حياً يقظاً كما هو، وإما أن يموت، أو تعتريه من العوامل البيئية ما يضعفه ويمرضه.
والأمانة التي تدعو إلى رعاية الحقوق، وتعصم عن الدنايا، وتصون المرء عن الزلل والوقوع في الخطايا – هي التي استقرت في وجدانه، ورسخت في أعماقه، وهيمنت
على الداني والقاصي من مشاعره، حتى صار هواه تبعاً لما جاء به الصادق المصدوق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
روى مسلم في صحيحه عن حذيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"إن الأمانة نزلت في جذور قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعملوا من القرآن وعلموا من السنة".
أي أن الأمانة صفة فطرية في الإنسان، تغلغلت في أعماق نفسه، ولكنه لم يعرف كيف يؤديها على وجهها الصحيح، فلما نزل القرآن بين لهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معانيه ومقاصده، وتعلموا من القرآن والسنة كيف تؤدى الأمانات، وكيف تصان.
لقد تعلموا من الكتاب والسنة أن الأمانة من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد. "فلا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له".
وفي هذه الوصية يلقن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغشاش درساً يتعلم منه حقيقة الأمانة في أسمى صورها، وأرقى معانيها، وحقيقة الصدق في الأقوال والأفعال.
والصدق والأمانة صفتان جامعتان لخصال الخير كلها، كل منهما تدل على الأخرى، تنبع منها وفيها تصب، فالصدق أمانة والأمانة صدق.
والمؤمن صادق أمين، لا يميل بطبعه إلى ما ينحرف به عن هاتين الصفتين أبداً.
ولو مال فإنما يميل بغير قصد، وسرعان ما يعرف خطأه فيبادر إلى التوبة النصوح، ورد المظالم إلى أهلها. إن كانت هناك مظالم ترد.
هم الذين قال الله فيهم:
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }
(سورة آل عمران: 135-136).
المقالات ذات الصلة
مقالات وموضوعات متنوعة
امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ: "امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ، وَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ". وفي رواية قال: "أَتُحِبُّ أَن يَلِينَ قَلْبُكَ، وَتُدرِكَ حَاجَتَكَ؟ اِرحَمِ اليَتيمَ، وَامْسَح رَأَسَهُ، وَأطعِمَهُ من طعامك – يَلِنْ قَلْبَكَ،...
مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ
والتأدب مع الله من أعظم المقامات التي يرتقي إليها الراسخون في العلم، ومن خلاله يكون الأدب مع الناس؛ لأن العبد إذا عرف الله بأوصافه الكمالية على قدر طاقته البشرية – عرف ما يحبه الله، فأتى به على أكمل وجه، وعرف ما يبغضه فاجتنبه؛ حياءً منه وطاعة له، وابتغاء لمرضاته وطمعاً في عظيم فضله وواسع رحمته.
حُكْمِ اللُّقَطَةِ
كان أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتقون الشبهات كلها: صغيرها وكبيرها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً؛ وذلك استبراء لأعراضهم وصيانة لدينهم وحرماتهم عند الله. فإذا شكل عليهم أمر ترددوا فيه بين الحل والحرمة واستفتوا فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيفتيهم كما علمه ربه عز وجل.
لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَالْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي". كثرة الكلام من غير ذكر الله تعالى – لغ...
الرَّجُلُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ
وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ: عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: "لَا يَنْفَتِلْ، أَوْ لَا يَنْصَرِفْ، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا". هذا الحديث أصل من أصول الإسلام اس...
مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ
وقد أوصانا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك في أحاديث كثيرة، كان منها هذا الحديث الذي يعتبر – في نظري – من أهم الوصايا التربوية التي تتعلق بالنشئ.وذلك لأن الصلاة عماد الدين، وركنه الركين، وهي الصلة الوثيقة بين العبد وربه – عز وجل -، كما بينا في وصية سابقة. ولها من الفضائل الكثيرة ما عرفناه، وما لم نعرفه.